في تلك الليلة، خلد السوريون إلى فراشهم في بيوتهم وخيمهم التي هجّروا إليها، يظنّون أنّ الحياة قد قدمت الأسوأ لهم ولا أسوأ أكثر من ذلك، وغفت جفونهم، ناموا وهم يحملون هم السّعي في صباح غدهم، فغدا قلق جديد، يستيقظ فيه السوريون وفي عقلهم ألف سؤال وسؤال؛ كيف سيؤمّنون الدفء في بيوتهم وخيمهم الرقيقة الباردة هذا الشتاء؟ هل يتخلّون عن الوقود أم يتحملّون أوجاعهم فيتخلّون عن الدواء؟ وماذا عن أسرهم؟ كيف سيُعيلونها؟ وفي زحمة هموم أفكارهم لم يخطر قطّ في بالهم أنهم سيستيقظون في الساعة الرابعة فجرًا، في العتمة وقبل الشروق، فزعين مدهوشين والأرض تهتز من تحتهم تجبرهم على الفرار بحياتهم الباقية!
الرعب ليلًا
"كارثة"، "فاجعة"، "مأساة"، "حزن"، "حسرة"، "خوف" و"رعب"، تلك بعض من الكلمات التي تتكرر على ألسنة ملايين الأشخاص في وصف هول الكارثة.
ستظل اللحظات الأولى للزلزال مطبوعة في ذاكرتهم لسنوات طويلة، "كان الظلام حالكًا، فقد انقطعت الكهرباء، ولم يستطع أنْ يرى أحدنا الآخر"، يقول زياد، "الأطفال يجهشون بالبكاء، والسماء تمطر بغزارة، والناس يركضون إلى الشوارع مرعوبين ونصف عراةٍ".
تشير منظمة رييتش (REACH) في آخر تقييم احتياجات لها، إلى أنّ الزلزال خلّف آثاره على 133 حي في شمال غربيّ سوريا، حيث أجبرت ما يزيد عن 40,000 أسرة على الفرار من منازلهم، ومن المرجّح أنْ يزداد هذا العدد في الأسابيع القادمة.
في لحظة مهيبة، استطاع زياد، وأفراد أسرته الخروج من منزلهم لينجوا بحياتهم، وثوانٍ تفصلهم عن رهبة مشاهدة منزلهم يتحول ركامًا أمام أعينهم. يقول زياد: "بدأت البنايات في الانهيار على الأرض واحدة تلو الأخرى، ولكنّنا، حمدًا لله، نجونا. لقد توفي الكثير من الناس، وتشرد عدد أكبر، أما الأطفال فيعتريهم الرعب". إنْ نظرت حولك تجد الناس فوق بعضهم امتلأت بهم باحات المساجد، والمدارس، والحدائق العامة، وحتى الشوارع.
مع بلوغ حصيلة الوفيات ما يقارب 4,400 وفاة، وتضرّر وانهيار 9,000 بناء في المنطقة، يشوب امتنان الناس لبقائهم على قيد الحياة الحزن والغضب. فلسنوات طويلة، كان السوريون في مواجهة مستمرة مع الصراع، وانتشار الفقر المدقع، وأزمة اقتصادية خانقة. وها هي خساراتهم وأحزانهم وأوجاعهم تتوالى ولا تنفك تلاحقهم.
ما بعد الكارثة
لم تعد الأيام اللاحقة للزلزال أقل إيلامًا أو إرباكًا. إنّ زياد ومئات آلاف السوريون محبطون من الاستجابة الإنسانية لتبعات الزلزال، يقولون إنّ العالم "خذلهم"، فمقارنة بحجم الاحتياجات الهائلة في المنطقة المنكوبة، لم يصل إلا بضع يسير من المساعدات إلى شمال غربيّ سوريا.
وجد تقييم منظمة رييتش (REACH) أنّ 50,000 أسرة على الأقل بحاجة للخيم والمأوى، "انظر إلى الناس هنا، إنهم بحاجة للمساعدات الطارئة. لم يصلنا حتى الآن سوا طرود غذائية"، يقول زياد. "إنّ الناس هنا بحاجة لخيم وأغطية، لقد تصدعت منازلهم، وأنا خسرت منزلي، وأثاثي وممتلكاتي. لم يتبق عندي شيء. لقد قدموا مساعدات نقدية للبعض، لكن لم يتلقّ الآخرون أي شيء منها. نتحدث هنا عن آلاف الأشخاص، ليسوا مئة أو مئتين."
على العالم أنْ لا ينسى
الآن وقد توقفت عمليات البحث والإنقاذ، لا أمل للسوريين إلّا في العثور على رفاة أهلهم وأقربائهم لدفنهم وتكرميهم في موتهم. وينصَب التركيز في الوقت الحالي على إزالة الركام، وفتح الطرقات، وإخراج مقتنياتهم القيمة من وثائق مدنية ونقود، إنْ أمكن.
الآن، تتكشّف حقيقة معاناة الناس المعقدة أمامهم، وفي حين أنّ استمرار المساعدات الطارئة ضروري في هذه المرحلة لتُعينهم على تجاوز هذه الفترة العصيبة، فإنّ الحاجة لبرامج طويلة الأمد، وتمويل أكثر مرونة أصبحا اليوم أكثر أهمية وأولية من أي وقت مضى لتعافي السوريين من الكارثة.
"ما يزال الكثيرون مدفونين تحت الركام، ونحن فقدنا 60 فردًا من جيراننا" هكذا أخبرنا زياد. أما عن أولئك الذين "حالفهم الحظ" في البقاء على قيد الحياة، تراهم هائمين على وجوههم، قد أثقلت خيباتُهم كواهلَهم في هذا العالم، بينما هم في حداد موجعٍ على أحبائهم، وفقدان منازلهم، وآمالهم الضائعة. وحتى تستعيد عافيتها تلك المجتمعات المقهورة حزنًا وألمًا وفقرًا وفقدًا، وحتى تستطيع أنْ تقف على قدميها من جديد، فهي بحاجة ماسة لعون ودعم العالم بأكمله، ولا يزال الأمل يرافق السوريين ألّا ينساهم العالم أينما حلّوا وارتحلوا.