لبنان

خيارات مستحيلة في بلد منهار

  داخل منزل صغير في قضاء عكار، شمال لبنان، تتدلى أرجوحة مصنوعة يدويًا من السقف. تعود الأرجوحة لعائشة البالغة من العمر تسعة أشهر. قام والداها بنصب هذه الأرجوحة لأجلها، بسبب عدم توفر ملاعب في المنطقة. هذه الأرجوحة هي مصدر الترفيه الوحيد في هذا المنزل المتآكل والشبه فارغ.
يعيش أحمد، وهو لبناني يبلغ من العمر 39، في هذا المنزل برفقة زوجته وثلاثة من أطفاله. يُخبرنا أحمد كيف يكون شعور عدم المقدرة على تلبية احتياجات أطفاله نتيجة للأزمة المستمرة في لبنان.
 
"لقد نفذ كيس الحفاظات لدي اليوم." يقول أحمد ثم يتابع "اقترحت على زوجتي استعمال كيس بلاستيكي. لا يوجد خيار آخر غير السرقة وهذا مستبعد بالنسبة لي. هذه هي الحياة اليوم."

عجلة تنزلق إلى الأسفل

ينتاب أحمد قلق حول استمرار تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد وبالنسبة لأسرته، ففي السنوات الأخيرة تغيرت حياة أحمد بشكل كبير وبصورة سيئة.
 
يعلق على ذلك قائلاً: "لقد كنت اشتغل وأستطيع توفير الإيجار والطعام. اليوم، لا نستطيع الحصول على علبة زيت. عندما احصل على علبة زيت اليوم، أخبر زوجتي باننا يجب أن نحافظ عليها لمدة ٣ شهور."
 

"كان مبلغ 20 ألف ليرة ذو قيمة، اليوم حتى 300 ألف لم يعد  لها قيمة. كانت الأمور أقل تعقيدًا من اليوم"

في عام 2019، كان الدولار الواحد يساوي 1500 ليرة من العملة اللبنانية. أما اليوم، فالدولار الواحد يساوي أكثر من 27000 ليرة وهذا الرقم يستمر في الازدياد.

نفاد الخيارات

هذا العام أُجبر أحمد على إخراج طفلتيه من المدرسة بسبب عدم مقدرته على تحمل التكاليف العالية. إذ يحتاج 800 ألف ليرة شهريًا فقط للباص الذي يأخذ طفلتيه للمدرسة. هذا المبلغ هو أكثر من 18% من متوسط الحد الأدنى للأجور الشهرية في لبنان.
 
يقول أحمد "عدم إرسالهم إلى المدرسة خارج عن رغبتي. انظر إليهم دائمًا وهم في المنزل وهذا لا يسعدني. كل شيء يثير قلقي. عندما تطلب منك ابنتك شيء ولا تستطيع تلبيته فهذا يجعلك تشعر بالتعاسة."
أحمد مع أبنته الرضيعة عائشة. الصورة: شربل ديسي/ المجلس النرويجي للاجئين
يرى أحمد أن الوضع يؤول إلى الحضيض في لبنان، فالأزمة الاقتصادية والسياسية التي تجتاح البلاد لم تترك له إلا معاناة التفكير في كيفية سد احتياجاته التي تزداد بشكل يومي.
 

"أنا أعجز عن توفير كيس حفاضات لأبنتي، لقد اضطررت لبيع الصوبة مقابل الحصول على كيس حفاضات. أنا لا قول انني جائع إلا لله"

لأجل تأمين كيس حفاضات لإبنته الصغرى التي تبلغ من العمر 9 أشهر، قرر أحمد بيع صوبة قديمة لديه، كان يحتاجها لتدفئة العائلة هذا الشتاء. الخيارات تنفد، ففي وقت سابق، باع أحمد غرفة النوم، مقابل مبلغ بسيط يستطيع من خلاله توفير بعض الاحتياجات الأساسية لعائلته.

"لا بأس بالموت"

ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن صحة أحمد ليست جيدة. فمنذ ثلاثة أشهر، لم يأخذ أحمد أي من الأدوية التي يحتاجها يوميًا. قبل عدة أيام من مقابلة أحمد، قررت الحكومة اللبنانية بشكل رسمي رفع الدعم عن الأدوية.
 
"لدي ضغط دم وسكري ومنذ ثلاث أشهر لم اتناول حبة دواء واحدة."
 
"ذهبت أول أمس للصيدلة من أجل الحصول على حقنة أنسولين. قال لي الصيدلي أن سعرها يساوي 108 ألف ليرة، قلت له دعها لا بأس بالموت. لا أستطيع شراءها بهذا الثمن. أنا اعاني من مرض الشحم الدم ايضًا [مستويات غير طبيعية من الكوليسترول]، دواء هذا المرض غير متوفر هنا في لبنان."
 
لم يكن يستطيع أحمد شراء الدواء قبل رفع الدعم. والآن يتساءل، وهو يشير إلى علبة مسكّن للآلام الصغيرة، عن كيفية التأقلم.
 
"علبة الدواء هذه، كم سعرها اليوم؟ 40 ألف. تذهب لصيدلية آخرى تجدها بقيمة 35 ألف وآخر تجدها بقيمة 60 ألف."
أحمد يلتقط علبة مسكّن للآلام. صورة: شربل ديسي/ المجلس النرويجي للاجئين

الفقر هو الوضع الطبيعي الجديد

  وضع عائلة أحمد هو وضع مشابه للكثير من العائلات الفقيرة اليوم في لبنان، تغيرت حياتها بشكل جذري بعد مظاهرات عام 2019 المعروفة ب"ثورة 17 تشرين"، والتي بدأها الشعب اللبناني ضد الأوضاع المعيشية السيئة  والفساد.
 
"في لبنان لا يوجد شيء على ما يرام. ليس هنالك داعي للسؤال عن لبنان. هذا بلد مليء بالفساد. نهاية هذه الأزمة التي تمر بها البلاد هو الموت."
 
  كانت حياة أحمد قبل بدء المظاهرات "عادية"، حسب كلماته. عامل بناء يعمل بشكل مرهق يوميًا لأجل تغطية الإيجار الشهري واحتياجات أسرته الأخرى كالطعام والتعليم لطفلتيه.
 
لكن بدأت التعقيدات لدى أحمد تزداد عندما أصيبت يده في العمل. حيث أجبرته الإصابة على التوقف عن العمل في مجال البناء.
 
يقول أحمد "لقد كنت اعمل في مجال البناء، لكن بعد العملية الجراحية التي اجريتها، لم اعد أستطع العمل."
 
"اليوم أنا أقوم بجمع قطع الحديد من أجل بيعها. أريد أن أطعم عائلتي، لكن أنا لا اجبر نفسي على عمل شيء خاطئ. إذا استطعت توفير رغيف خبز واحد، اشكر الله."
 
 

أزمة في لبنان

 

وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة في آذار (مارس) 2021، 78 في المئة من السكان اللبنانيين - حوالي 3 ملايين شخص - يعيشون تحت خط الفقر. وبلغ معدل الفقر المدقع 36 في المئة. هذا يعني أن 1.38 مليون لبناني غير قادرين على توفير السلع والخدمات الأساسية التي تعتبر ضرورية للبقاء على قيد الحياة.
 
بسبب الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، يتعين على عشرات الآلاف من الآباء اليائسين الآن الاختيار بين تعليم أطفالهم أو إطعام أسرهم.
ينتاب أحمد قلق حول استمرار. الشيء الوحيد الذي يستطيع من خلاله نسيان كل قلقه هو عندما يلعب مع أبنته الصغرى عائشة.
في رأي أحمد، الأزمة السياسية في لبنان هي السبب الرئيسي لما يحصل له وللعديد من العائلات في لبنان. لا يوجد وقت للتفكير في المستقبل. الشيء الوحيد الذي يستطيع أحمد من خلاله نسيان كل قلقه هو عندما يلعب مع أبنته الصغرى عائشة.
 

مجرد منزل طبيعي

 
"كما ترى عينك، هذا ليس منزل مناسب للأطفال." يقول أحمد. "هل هذا شكل منزل؟ لكن الحمدلله حالنا أفضل من الكثيرين. يوجد الكثير من العائلات لا يتوفر لديها سقف حتى تنام أسفله."
المطبخ في منزل أحمد المتآكل. صورة: شربل ديسي/ المجلس النرويجي للاجئين
  لكن الأمور تغيرت في الآونة الأخيرة. يقوم المجلس النرويجي بترميم منزل أحمد، بدعم من ألمانيا من خلال بنك التنمية الألماني KfW. حيث سيسمح مالك المنزل لأسرة أحمد بالبقاء في المنزل لمدة عام دون دفع إيجار.
 
"أنا أعيش في هذا المنزل منذ ست سنوات. مالك المنزل الذي أسكن عنده هو شخص جيد للغاية وصبور. لم أتأخر في حياتي على الإيجار وهو يذكرني بذلك دومًا."
 
ستمكن هذه المساعدة عائلة أحمد من خلال تخفيف بعض الضغوط المالية على العائلة والسماح لهم بإعطاء الأولوية للاحتياجات الأخرى مثل الرعاية الصحية والتعليم.
 
"لقد بعت أثاث غرفة النوم سابقًا لأجل توفير طعام، لقد كنت بحاجة للمال لشراء طعام وهذا كان خياري الوحيد."
 
"من خلال ترميم المنزل وتسديد الإيجار لمدة عام، أستطيع على الأقل التفكير في شراء طعام. من دون الدعم لا يمكنني فعل شيء كهذا. هذا الخيار أفضل من طلب المال من الناس."
 
"لا أريد شيء في حياتي إلا منزل استأجره، وأن أعمل واساعد عائلتي فقط لا شيء آخر."